محمد حميد الطوسي
بعد الفتح الإسلامي لفارس قامت ثورات شعوبية من أهل فارس ، وكانت تريد الرجوع وتنادي بإعتناق المذاهب القديمة لفارس ، وكانت الحركة الراوندية والخرمية الرافضية من بين الدعاة إلى ذلك ، فحدث أن قام بابك الخرمي بتلقي تعليمه على يد رجل اسمه جاويذان بن سهل ، وكان هذا الرجل من دعاة وزعماء الخرمية ، فلما مات قامت زوجة ذلك الرجل بتنصيب بابك على الحركة رئيسا ، وتزوجته لما اكتشفت من خلال معرفتها به أنه يميل إلى السلطة والزعامة وتميزه بالخبث الشديد ، وحسن التأثير على الناس البسطاء ، وقام ذلك الخبيث بتجميع قواته وعوام الناس وذهب الى الجبال ، لكى يكمل استعداداته لكى ينقلب على الخلافه فى اذربيجان اثار بابك ثورته في عام 201هـ مستغلا الصراع بين الأمين والمأمون ، وقام بتأليب الأمارات البيزنطية فى الشمال على الهجوم على ثغور المسلمين ، ونجح فى الإستيلاء على اذربيجان اثناء تواجد الخليفه المأمون فى مرو ، حاول المأمون أن يجمح محاولات الخرمية ولكن انشغاله بعد استتاب الملك له إلى محاربة البيزنطيين ووعورة الجبال التى تحصن فيها الخرمية من الوصول إليهم واخذوا فى التوسع فى مملكتهم حتى نجحوا فى ضم اصفهان وهمذان والديلم وطبرستان وجرجان واخذوا يعيثون فى الارض فسادا واضطرابا
توفى المأمون واوصى أخيه المعتصم ألا يبخل بأى شكل فى سبيل القضاء على بابك ، وجاء المعتصم فوجه إليه جحافل الجيوش الإسلامية بقيادة أبا سعيد محمد بن يوسف فقام بتشييد الحصون ونقاط القوة فى وجه الخرمية فى اردبيل ، وسار إليهم فلما سار مسافة قامت الخرمية بالهجوم على الحصن من اجل الاستيلاء عليه ، و قطع الميره على الجيش الاسلامى عندما يتوجه شمالا ، فقام ابو سعيد بعملية هجوم سريع إلى الإمام مع تأخر قواته الرئيسية ، فى الخلف من اجل تطويقهم ، وبالفعل ينجح ابو سعيد فى مهمته ونجح فى أن يقتل وياسر منهم الكثير ، ولكنه فشل رحمه الله فى القضاء المبرم عليهم ، فقرر المعتصم أن يرسل القادة الواحد تلو الآخر ولكن الجميع عجز عن الوصول إلى بابك الخرمى ، فقرر الخليفة المعتصم أن يرسل إليه شابا من أفضل القواد المسلمين هو الشاب محمد بن احمد بن حميد الطوسى ابن الثانية والثلاثون عاما ذاك الشاب الذى دحر الروم فى كل مكان ووصل الى اقصى الممالك فى دولتهم ، وكان هذا الشاب من أشجع الفرسان فى دولة الخلافة ، كلها وكان يحب المبارزة فى مطلع كل قتال مع العدو وكان المعتصم يسمع عنه دون أن يراه ، فلما استدعاه ورأى صغر سنه أستعجب وقربه إليه وزوجه إحدى شقيقاته ، ولما رأى أن الجيوش الاسلامية تفنى فى جبال اذربيجان وجميعها فشل فى الوصول إلى بابك ، قرر الخليفة ارسال الجيش الجديد بقياده بطلنا محمد بن حميد الطوسى ،
قرر بطلنا أن يقوم باخذ طريق الموصل لكى يكون بابك من أمامه طيلة الوقت ، لا بمحازاته على الرغم من وعورة الطريق ، وكثرة اتباع بابك ، وبالفعل يشتبك مع زريق بن على ويهزمه هزيمة منكره وهو احد رجال بابك ، ويواصل بطلنا طريقه وقد قرر أن يترك جزءا من قواته فى كل ثغر ليحمى مؤخرته من التطويق وقطع الميرة عن جيشه ، ووصل الجيش الإسلامي إلى بهادشتر بالقرب من جبال البذ معقل بابك ، وكان بابك على علم بكل تحركات محمد بن حميد الطوسى فقام بابك بوضع جميع قواته بين الجبال لكى يكبس القوات الصاعده إليه وحدث أن كان من بين القوات المسلمة قوات من بلاد اذربيجان كان بطلنا قد استعان بها فى جيشه لفهمهم الدروب والطرق ولتسهيل مرور الجيش الاسلامى ، ووضع حميد خطة القتال التى كانت تنص على حفر خندق كبير حول الجبل ثم القيام بهجوم شامل وبعدها التظاهر بالفرار ليقودوهم إلى كمائن المسلمين ، ولكن بعض المحليين من المدينة رفضوا الخطة وعرضوا عليه الهجوم من باب بين جبلين لكى يكبس الخرمية ، أولاً : شاور محمد بن حميد اصحابه رغم عدم ارتياحه للخطة ولكنهم جميعا رفضوا رأيه ووافقوا أهل المدينة فقرر التنفيذ ، جعل على الميمنة السعدى بن اشرم وعلى الميسرة العباس بن عبد الجبار اليقينى وعلى القلب محمد بن يوسف الطائى ابو سعيد اول القاده الذين ذكرناهم واول من حارب الخرمية وكان هو فى المؤخره مع حرسه الخاص والفرسان الثقيلة لأجل سد أي هفوة تحدث فى الصفوف بقواته ، وفجأة اثناء تقدم الجيش الاسلامى يخرج من بين الجبال ما يربو عن مائتين الف مقاتل من الخرمية مندفعين من أعلى الجبل على الجيش الإسلامي فيفر الجيش مع هول الأعداد للعدو ، فيقرر القادة الإنسحاب إلى الخلف منعاً للإبادة ، وقام القادة بتنبيه الطوسي إلى أن الهجوم فشل وأن الإنسحاب هو الأفضل لحماية الجيش الإسلامي من الإبادة التامة ، ولكن الطوسي يندفع مع ثلة من حرسه الخاص لأعلى الجبل لكى يحمى جيشه المنسحب ، ويحاول بعض القادة أن يحملوه قسرا ، ولكنه يشهر سيفه فى وجههم صارخا أن لا حياة للقائد دون جنده ، وأنه المسئول عن الذى حدث ، ففر حرسه الخاص لما راؤو عزمه على القتال والشهاده إلا واحد ورأى مجموعة من المسلمين تقاتل يائسة من النجاة وقد اجتمع عليهم معظم الخرمية لما يئسوا من اللحاق بالجيش الأسلامي الذي أنسحب أو فر بسرعة عجيبة فانقض البطل وصاحبه لأجل تخليصهم من الحصار ، فلما رأى الخرمية حسن هيئته وقتاله عرفوا انه قائد أو اميرهم فاحاطوا به وقامو بقتل فرسه بفاس واحاطوا به فوقع عليهم يقتل ويجرح حتى استشهد رحمه الله ، بعد ان اخذ يحارب طيلة النهار ، ولما وصل نبأ استشهاده إلى الخليفة في بغداد ، اجتمع الناس فى الشوارع ليبكوا بطل وقائد رفض الحياة لأجل أن يحمى جنده وقواته .
وبكى الشاعر الفحل أبو تمام وانشد أجمل قصيدة رثاء في تاريخ الشعر الإسلامي يقول :
كَـذا فَـليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ
فَـلَيسَ لِـعَينٍ لَـم يَفِض ماؤُها عُذرُ
وَمـا كـانَ إِلّا مـالَ مَـن قَلَّ مالُهُ
وَذُخـراً لِـمَن أَمسى وَلَيسَ لَهُ ذُخرُ
فَـتىً كُـلَّما فـاضَت عُـيونُ قَبيلَةٍ دَمـاً
ضَحِكَت عَنهُ الأَحاديثُ وَالذِكرُ
فَـتىً مـاتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ ميتَةً
تَـقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ
وَقَـد كـانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ
إِلَـيهِ الـحِفاظُ الـمُرُّ وَالـخُلُقُ الوَعرُ
وَنَـفسٌ تَـعافُ الـعارَ حَـتّى كَأَنَّهُ
هُـوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَـأَثبَتَ فـي مُـستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ
وَقـالَ لَـها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
غَـدا غَـدوَةً وَالـحَمدُ نَـسجُ رِدائِهِ
فَـلَم يَـنصَرِف إِلّا وَأَكـفانُهُ الأَجرُ
تَـرَدّى ثِـيابَ الـمَوتِ حُمراً فَما أَتى
لَـها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
فَتىً كانَ عَذبَ الروحِ لا مِن غَضاضَةٍ
وَلَـكِنَّ كِـبراً أَن يُـقالَ بِـهِ كِـبرُ
أَمِـن بَـعدِ طَـيِّ الـحادِثاتِ مُحَمَّداً
يَـكونُ لِأَثـوابِ الـنَدى أَبَـداً نَشرُ
مَـضى طـاهِرَ الأَثوابِ لَم تَبقَ رَوضَةٌ
غَـداةَ ثَـوى إِلّا اِشـتَهَت أَنَّـها قَبرُ
عَـلَيكَ سَـلامُ الـلَهِ وَقـفاً فَـإِنَّني
رَأَيـتُ الـكَريمَ الـحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ
وهنا يشتد بكاء المعتصم ويقول ليتني أنا من مات وقيلت تلك القصيدة فى رثائي ،
فرحم الله بطلا مجيدا عظيما
تعليقات
إرسال تعليق