، عبدالحميد بن باديس
هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحّول بن الحاج علي النوري بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن بركات بن عبد الرحمن بن باديس الصنهاجي. ولد بمدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري
بدأ حياة التعلم في الكتاب القرآني على الشيخ محمد المداسي حتى حفظ القرآن عليه ، وسنه ثلاثة عشرة سنة . ولشدة إعجابه بجودة حفظه ، وحسن سلوكه ، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع الكبير سنتين أو ثلاثا ، وتلقى مبادئ العلوم العربية والإسلامية بجامع سيدي عبد المؤمن على مشايخ أجلاء من أشهرهم العالم الجليل الشيخ حمدان الونيسيابتداء من عام 1903 وهو من أوائل الشيوخ الذين كان لهم أثر طيب في اتجاهه الديني، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له : "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة" ، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا
وفي سنة (1327 هـ - 1908 م) التحق الشيخ عبد الحميد بجامع الزيتونة ، فأخذ عن جماعة من كبار علمائها الأجلاّء ، وفي طليعتهم زعيم النهضة الفكرية والإصلاحية في الحاضرة التونسية العلاّمة «محمّد النخلي القيرواني» المتوفى سنة : (1342 هـ - 1923 م) ، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة : (1393 هـ - 1973 م) ، فضلاً عن مربين آخرين من المشايخ الذين كان لهم تأثير في نمو استعداده ، وتعهّدوه بالتوجيه والتكوين ، كالبشير صفر ، وسعد العياض السطايفي ، ومحمّد بن القاضي وغيرهم ، وقد سمحت له هذه الفترة بالاطلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من إصلاحات دينية وسياسية ، في مصر وفي الشام وغيرهم ، ممّا كان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية ، والملازمات المستمرّة لرجال العلم والإصلاح الأثر البالغ في تكوين شخصيته ومنهاجه في الحياة
سافر الإمام الجليل عبد الحميد بن باديس عام 1913 في رحلة طويلة امتدت إلى الحجاز و منه إلى الشام ومصر، لأداء فريضة الحج وزيارة بعض العواصم للاتصال بعلمائها والاطلاع على ما يجري بها ، معتبرا هذه الرحلة تتمة للدراسة . وبعد أداء مناسك الحج والعمرة زار المدينة المنورة وأقام بها ، وفي أثناء إقامته بها لقي أستاذه الأول الذي درس عليه في مدينة قسنطينة (فضيلة الشيخ حمدان الونيسي الجزائري) الذي هاجر إلى المدينة المنورة وأقام بها ، وتعرف على بعض العلماء ومن رفقاء أستاذه مثل : الشيخ الجليل حسين أحمد الفيض أبادي الهندي ، والشيخ الجليل الوزير التونسي ، وألقى بحضورهم درسا في الحرم النبوي الشريف ، فأعجبوا به إعجابا شديدا مما لفت الأنظار إليه. وفي هذه الأثناء أبدى رغبته في البقاء بالمدينة المنورة إلى جوار أستاذه (فضيلة الشيخ الجليل الونيسي) فرحب الأستاذ بهذه الفكرة ورغبه فيها ، لما يعرف من أوضاع بلده. لكن فضيلة الشيخ حسين أحمد الهندي لم يوافقه على ذلك ، بل نصحه بضرورة العودة إلى وطنه لخدمة بلاده ومحاولة إنقاذها مما هي فيه ، بما توسم فيه من حزم وعزم وصلاح ، قائلا له : إرجع إلى وطنك يا بني فهو بحاجة إليك وإلى أمثالك ، فالعلماء هنا كثيرون ، يغنون عنك ، ولكنهم في وطنك وفي مستوى وطنيتك وعلمك قليلون بسبب الهمجية الفرنسية التي تحارب الدين واللغة وخدمة الإسلام في بلادك أجدر لك وأنفع لها من بقائك هنا. فاقتنع الشاب عبد الحميد بن باديس بوجهة نظر هذا الشيخ الجليل ، وقبل نصيحته وقرر الرجوع إلى الوطن . وخلال الفترة التي قضاها في المدينة المنورة تعرف إلى شاب جزائري في مثل سنه عالم وأديب ، هو الشيخ العالم الجليل محمد البشير الإبراهيمي المقيم مع والديه في المدينة المنورة ، أقام معه مدة تعارفا فيها وتحاورا معا في شأن الخطة الإصلاحية التي يجب أن تضبط لعلاج الأوضاع المتردية في الجزائر ، واتفقا على خدمة بلادهما متى عادا إليها ." وقد ذكر الشيخ الجليل الإمام الكبير محمد البشير الإبراهيمي أنهما لم يفترقا مدة إقامة الإمام عبد الحميد بن باديس بالحجاز ، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر ، و يحددان شروط و وسائل نهضتها ". زار ابن باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصرواجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيس.
عاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة ، وشرع في العمل التربوي الذي صمم عليه ، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار ، وكان المسجد هو المركز الرئيسي لنشاطه ، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين ، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع بوجهة واحدة ، فاتجه إلى الصحافة ، وأصدر جريدة المنتقد عام 1925 م وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" ثم أوقفت بعد العدد الثامن عشر ؛ فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية التي بث فيها آراءه في الإصلاح ، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 م ثم جرائد البصائر والسنة ] والشريعة والصراط ، وكان شعارها مقولة الإمام مالك إمام دار الهجرة: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
تأسيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر
وذلك في سنة 1931 في نادي الترقي بالجزائر العاصمة. أول توقف صدور للمجلة في شهر شعبان 1328 هـ (سبتمبر 1939) بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية وحتى لا يكتب فيها أي شيء تريده منه الإدارة الفرنسية تأييداً لها ، وفي سنة 1936 م دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر ، وقد وجه دعوته من خلال جريدة لا ديفانسالتي تصدر بالفرنسية ، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته وكذلك بعض الشخصيات المستقلة ، وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق للجزائر ، وتشكيل وفد سافر إلى فونسا لغرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا الوفد ابن باديس الإبراهيمي والطيب العقبيممثلين
العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس
لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان ، وفي بلد كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا ، وعن معاناته من الجهل والاستسلام للبدع-فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً عليه ، وكان ابن باديس من هذا النوع . وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين ، وكان بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق المصلحين.
تأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وما دعا إليه من نقاء العقيدة وصفائها . وكان لمجلة المنار التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة.
مما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله-وقد وصفهم هو بالأسود الكبار-من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي وقد عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.
كان والده بارًا به يحبه ويتوسم فيه النباهة ، فقد سهر على تربيته وتوجيهه التوجيه الذي يتلاءم مع فطرته ومع تطلعات عائلته. عبد الحميد بن باديس نفسه يعترف بفضل والده عليه منذ أن بصر النور وفقد قال ذلك في حفل ختم تفسير القرآن سنة 1938 م، أمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلة الشهاب :إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة ، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً ، وكفاني كلف الحياة... فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر.».
من أشعاره
شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ
شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ وَإلىَ الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أصْلِـهِ أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَـذبْ
أَوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ رَامَ الـمُحَـال من الطَّـلَـبْ
يَا نَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ
خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَـهـا وَخُـضِ الخْـطُـوبَ وَلاَ تَهبْ
وَاْرفعْ مَـنـارَ الْـعَـدْلِ وَالإحْـسـانِ وَاصْـدُمْ مَـن غَصَبْ
وَاقلَعْ جُـذورَ الخَـــائـنينَ فَـمـنْـهُـم كُلُّ الْـعَـطَـبْ
وَأَذِقْ نفُوسَ الظَّــالـمِـينَ سُـمًّـا يُـمْـزَج بالـرَّهَـبْ
وَاهْـزُزْ نـفـوسَ الجَـامِدينَ فَرُبَّـمَـا حَـيّ الْـخَـشَـبْ
مَنْ كَــان يَبْغـي وَدَّنَــا فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحب
ومن كـان يبـغي ذلــنا فـلـه الـمـهانـة والـحـرب
هذا نِـظـامُ حَـيَـاتِـنَـا
حتَّى يَعودَ لـقَــومــنَـا من مَجِــدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ
هَــذا لكُمْ عَـهْــدِي بِـهِ حَتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ
فَــإذَا هَلَكْتُ فَصَيْـحـتـي تَحيـَا الجَـزائـرُ وَ الْـعـرَبْ
وفاته
انتقل رحمة الله عليه إلى الرفيق الأعلى ليلة الثلاثاء الثامن من ربيع الأول سنة 1359 هـ الموافق لـ 16 أبريل 1940 م في مسقط رأسه بمدينة قسنطينة، التي اتخذها في حياته مركزا لنشاطه التربوي، والإصلاحي، والسياسي، والصحافي. وفي يوم تشييع جنازته خرجت مدينة قسنطينة على بكرة أبيها كلها تودعه الوداع الأخير
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .
تعليقات
إرسال تعليق