كل ذي نعمة محسود

حدث منارة صاحب الخلفاء قال: رُفع إلى هارون الرشيد (ت193هـ) أن رجلاً من بقايا بني أمية عظيم الجاه، واسع الحال ، كثير المال والأملاك ، مطاعاً في البلد ، له جماعة أولاد ومماليك وموال يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم ، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة ، وأنه لا يؤمن منه ، فعظم ذلك على هارون . قال منارة : وكان وقوف الرشيد على هذا إذ هو بالكوفة في بعض خرجاته إلى الحج ، وقد عاد من الموسم وبايع لأولاده ، فدعاني وهو خال فقال لي : قد دعوتك لأمر يهمني ، وقد منعني النوم ، فانظر كيف تعمل وكيف تكون . ثم قص علي خبر الأموي ، وقال : اخرج الساعة فقد أعددت لك الجمازات وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلات وضم إليك مائة غلام واخرج في النوبة ، وهذا كتابي إلى أمير دمشق ، وهذه قيود إذا دخلت البلد فابدأ بالرجل . فإن سمع وأطاع فقيده بها وجئني به ، وإلا فتوكل أنت ومن معك به حتى لا يهرب ، وأنفذ الكتاب إلى أمير البلد ليركب في جيشه، فاقبضوا عليه وجئني به ؛ وقد أجلتك لذهابك ستاً ولعودك ستاً ويوماً لمقامك ، وهذا محمل يجعل في شقه إذا قيدته ، وتقعد أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك ؛ فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه وما يقولون ، وقدر النعمة والحال والمحل ، واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرف من ألفاظه منذ وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به ، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره .
قال منارة : فخرجت فركبت الإبل وسرت على ما أمر لي إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة ، وأبواب البلد مغلقة . فكرهت طروقها ، فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح من غد ، فدخلت على هيئتي حتى أتيت باب دار الرجل ، وعليه صفف عظيمة وحاشية كثيرة ، فلم استأذن ودخلت بغير إذن . فلما أن رأى ذلك القوم سألوا بعض من معي عني ، فقالوا : هذا منارة رسول أمير المؤمنين الرشيد إلى صاحبكم ، فسكتوا . فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوماً جلوسا ، فظننت الرجل فيهم . فقاموا ورحبوا بي وأكرموني ، فقلت : أفيكم فلان؟ قالوا : لا، نحن أولاده وهو في الحمام . قلت : فاستعجلوه ، فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والحال والحاشية ، فوجدتها قد ماجت بأهلها موجاً شديداً. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال ، فاشتد خوفي وقلقي من أن يتوارى ، إلى أن رأيت شيخاً قد أقبل من الحمام يتمشى في الصحن وحوله جماعة كهول وأحداث حسان وهم أولاده وغلمان كثير، فعلمت أنه الرجل. فجاء حتى جلس وسلم علي سلاماً خفيفاً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته ، فأخبرته بما وجب . وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق فاكهة ، فقال لي : تقدم يا منارة ، فقلت : ما بي إلى ذلك حاجة . فلم يعاودني وأكل هو والحاضرون عنده ، ثم غسل يده ، ودعا بالطعام فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا في دار الخليفة ، فقال : تقدم يا منارة ، ساعدنا على الأكل . وهو لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة . فامتنعت فما عاودني . وأكل هو وأولاده وكانوا تسعة ، عددتهم وجماعة كثيرة من أصحابه وحاشيته وجماعة من أولاد أولاده ، وتأملت أكله في نفسه ، فوجدته أكل الملوك ، ووجدت جأشه رابطاً، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن . ووجدته لا يرفع شيء قد جعل على المائدة إلا نهب . وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي وغلماني فغدوا بهم إلى دار له فما طاقوا ممانعتهم ، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة منهم كانوا وقوفاً على رأسي . فقلت في نفسي هذا جبار عنيد ، فإن امتنع علي من الشخوص فأنا ومن معي هالكون .

فجزعت ولا سبيل لإعلام أمير البلد ، وإلى أن يلحقني أمير البلد لا أملك لنفسي دفع ضرر يريده بي ، وذاك أني استربت باستخفافه بي ، وتهاونه ودعائه لي باسمي ، ولا يفكر في امتناعي من الأكل ، ولا يسأل عما جئت له ، بل أكل مطمئناً . وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه وغسل يده ، ودعا ببخور فتبخر، وقام إلى الصلاة فصلى وطول ، وأكثر من الدعاء والابتهال ، ورأيت صلاته حسنة ، فلما انفتل من المحراب أقبل علي وقال : ما أقدمك يا منارة ؟ قلت : أمر لك من أمير المؤمنين . فأخرجت الكتاب ودفعته إليه ففضه وقرأه ، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته ، فاجتمع منهم خلق كثير، فلم أشك إلا أنه يريد أن يوقع بي ، فلما تكاملوا ابتدأ فحلف أيماناً مغلظة ، فيها الطلاق والحج والصدقة والوقف والحبس ، إن اجتمع منهم اثنين في موضع واحد إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه . وقال : هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه ، ولست أقيم بعد هذا ولا لحظة واحدة لأنظر في أمري مسارعة إلى أمره ؛ فاستوصوا بمن ورائي من الحرم ، وما بي حاجة إلى أن يصحبني غلام . هات أقيادك يا منارة . فدعوت بها وكانت في سفط ، وأحضرت حداداً ومد ساقيه فقيدته ، وأمرت غلماني حتى حصل في المحمل ، وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي لم ألق أمير البلد ولا غيره ، وسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق ، فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن بالغوطة . فقال لي : أترى هذا ؟ قلت : نعم ، قال: إنه لي ، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت ، ثم انتهى إلى آخر فيه مثل ذلك ، ثم انتهينا إلى قرى حسان سرية ، فأقبل يقول : هذا لي ، ويصف كل شيء من ذلك . فاشتد غيظي منه فقلت له : علمت أني شديد التعجب ، قال : ولم تعجب ؟ قلت : ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك وولدك ومالك ، وأخرجك عن جميع مالك وحيداً فريداً مقيداً ، لا تدري إلى ما تصير إليه ولا كيف تكون ، وأنت فارغ البال من هذا وتصف بساتينك وقراك وضياعك ، هذا بعد أن رأيتني قد جئت وأنت تعلم فيم جئت ، بل أنت ساكن الجأش مطمئن القلب ، ولقد كنت عندي شيخاً فاضلاً . فقال لي مجيباً : إنا لله وإنا إليه راجعون ! أخطأت فراستي فيك ، قدرتك رجلاً كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعدما عرفوك بذلك ، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم ، والله المستعان ! أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه لي وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة بالله عز وجل الذي بيده ناصية كل شيء ، ولا يملك شيء لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا لغيره إلا بإذن الله ومشيئته ، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه ، وبعد فإذا عرف أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي ، وأن الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقته ، وتقولوا علي الأكاذيب الباطلة ، لم يستحل دمي وتحرج من أذيتي وإزعاجي ، فردني مكرماً أو أقامني ببابه معظماً . وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أن تبدر إلي منه بادرة سوء وقد حضر أجلي ، وحان سفك دمي على يده ، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على فوت ذلك وتزحزحه عني ما استطاعوه ؛ فلم أتعجل الهم والغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ منه ؛ وإني أحسن الظن بالله عز وجل الذي خلق ورزق ، وأمات وفطر، وجبل وأحسن وأجمل ، وقد كنت أظن أن مثلك يحسن ويعرف هذا ؛ والآن قد عرفتك حق معرفتك ، وعلمت حد فهمك ، فإني لا أكلمك بعد هذا حتى تفرق حضرة أمير المؤمنين بيني وبينك . ثم أعرض عني فما سمعت له لفظة بغير التسبيح والقرآن إلا طلب الماء أو حاجة تجري مجراه ، حتى شارف الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر . وإذا النجب قد استقبلتني على فراسخ من الكوفة يتحسسون خبري ؛ فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين . ودخلت إلى الرشيد ووقفت . قال : هات ما عندك ، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة . فسقت الحديث من أوله إلى آخره ، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والطهور والبخور والصلاة ، وما حدثت به نفسي من امتناعه ، والغضب يظهر في وجهه ويتزايد ، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته إلي ومسألته إياي عن سبب قدومي ، ودفعي الكتاب إليه ، ومبادرته إلى أمر ولده وأسبابه وأهله وأصحابه وخدمه ألا يتبعه أحد منهم ، وصرفه إياهم ، ومد رجله حتى أقيده . فما زال وجه الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه ، فقال : صدق والله ! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه ؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا أهله ، فبادر بنزع أقياده عنه ، وأتني به . فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد . فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد . فدنا الأموي فسلم بالخلافة ووقف ، فرد عليه السلام رداً جميلاً ، وأمره بالجلوس فجلس . وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله ، ثم قال له : بلغنا عنك فضل هيئة ، وأمور أحببنا أن نراك معها ، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك ، فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا وقال : أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة . قال : مقضية فما هي؟ قال : يا أمير المؤمنين ، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي ، قال: نحن نفعل ذلك ، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك ، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا . فقال : عمال أمير المؤمنين منصفون ، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله ، وأموري منتظمة ، وأحوالي مستقيمة ، وكذلك أمور بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين ، فلا استغنم ماله . فقال الرشيد : انصرف محفوظاً إلى بلدك ، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك . فودعه الأموي . فلما ولى خارجاً قال لي الرشيد : يا منارة احمله من وقته ، فسر به راجعاً كما سيرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك

 

 

 

التذكرة الحمدونية لابن حمدون

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبوكبير الهذلي وتأبط شراً

جرير والفرزدق والأخطل والاعرابي

من حكم العرب