من كرم حاتم
قالت النوار امرأة حاتم الطائي : أصابتنا سنة اقشعرَّت لها الأرض ، واغبرَّ أفق السَّماء ، وراحت الإبل حدبًا حدابير ، وضنَّت المراضع عن أولادها فما تَبِضُّ بقطرة ، وجَلَّفَت السَّنَة المال ، وأيقنَّا أنَّه الهلاك . فو الله إنِّي لفي ليلة صَنْبر بعيدة ما بين الطَّرفين ، إذ تضاغى أصيبيتنا مِن الجوع ، عبد الله وعدي وسَفَّانة ، فقام حاتم إلى الصبيَّين ، وقمت إلى الصبيَّة ، فو الله ما سكنوا إلَّا بعد هدأة مِن اللَّيل ، ثمَّ ناموا ونمت أنا معه ، وأقبل يعلِّلني بالحديث ، فعرفت ما يريد ، فتناومت ، فلمَّا تهوَّرت النُّجوم إذا شيء قد رفع كِسْر البيت ، فقال : مَن هذا ؟ فولَّى ثمَّ عاد ، فقال : مَن هذا ؟ فولَّى ثمَّ عاد في آخر اللَّيل ، فقال : مَن هذا ؟ فقالت : جارتك فلانة ، أتيتك مِن عند أصيبية يتعاوون عواء الذِّئاب مِن الجوع ، فما وجدت معوَّلًا إلَّا عليك أبا عدي ، فقال : والله لأشبعنَّهم ، فقلت : مِن أين ؟ قال : لا عليك ، فقال : أعجليهم فقد أشبعك الله وإيَّاهم ، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة ، كأنَّها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته ، فخر ، ثمَّ كشطه ، ودفع المدية إلى المرأة ، فقال : شأنك (الآن) ، فاجتمعنا على اللَّحم ، فقال : سوأة ! أتأكلون دون الصِّرم ؟! ، ثمَّ جعل يأتيهم بيتًا بيتًا ويقول ؛ هبُّوا أيُّها القوم ، عليكم بالنَّار ، فاجتمعوا ، والْتَفَع بثوبه ناحيةً ينظر إلينا ، لا والله ما ذاق منه مُزْعَة ، وإنَّه لأحوج إليه منَّا ، فأصبحنا وما على الأرض مِن الفرس ، إلَّا عظم أو حافر ، (فعذلته على ذلك) ، فأنشأ حاتم يقول :
مهلًا نوار أقلِّي اللَّوم والعذلا ولا تقولي لشيء فات : ما فعلا |
ولا تقولي لمال كنت مهلكه مهلًا، وإن كنت أعطي الجنَّ والخَبَلا |
يرى البخيل سبيل المال واحدة إنَّ الجَوَاد يرى في ماله سبلا |
لا تعذليني في مال وصلت به رحمًا، وخير سبيل المال ما وصلا |
وقيل سأل رجل حاتمًا الطَّائي فقال : يا حاتم هل غلبك أحدٌ في الكَرَم ؟ قال : نعم ، غلام يتيم مِن طيئ ، نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس مِن الغنم ، فعمد إلى رأس منها فذبحه . وأصلح مِن لحمه ، وقدَّم إليَّ ، وكان فيما قدَّم إليَّ الدِّماغ ، فتناولت منه فاستطبته ، فقلت : طيِّبٌ والله . فخرج مِن بين يدي ، وجعل يذبح رأسًا رأسًا ، ويقدِّم إليَّ الدِّماغ وأنا لا أعلم . فلمَّا خرجت لأرحل نظرت حول بيته دمًا عظيمًا ، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره . فقلت له : لم فعلت ذلك ؟ فقال : يا سبحان الله ! تستطيب شيئًا أملكه فأبخل عليك به ، إنَّ ذلك لسُبَّة على العرب قبيحة . قيل يا حاتم : فما الذي عوَّضته ؟ قال : ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس مِن الغنم ، فقيل أنت إذًا أَكْرَم منه ، فقال : بل هو أكرم ، لأنَّه جاد بكلِّ ما يملكه ، وإنَّما جُدت بقليل مِن كثير .
تعليقات
إرسال تعليق