إنتظار بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
وقال عبد الرزاق قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } هو أمية بن أبي الصلت.
حدث معاوية بن أبي سفيان (ت60هـ) ، عن أبيه قال:
خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام ، فكلما نزلنا منزلاً أخذ أمية سفراً له يقرؤه علينا ، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى ، فجاؤه وأكرموه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم ، ثم رجع في وسط النهار ، فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما ، وقال لي : هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهي علم الكتاب تسأله .
قلت : لا إرب لي فيه ، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به ، ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه . قال أبو سفيان : فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل عليّ فقال : ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ ؟ قلت : لست على دينه . قال: وإن فإنك تسمع منه عجبا وتراه . ثم قال لي : أثقفي أنت ؟ قلت : لا ، ولكن قرشي .
قال : فما يمنعك من الشيخ ، فو الله إنه ليحبكم ويوصي بكم .
قال: فخرج من عندنا ، ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل ، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه ، فو الله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقة على صبوحة ما يكلمنا ولا نكلمه .
ثم قال أمية : ألا ترحل ؟ قلت : وهل بك من رحيل ؟ قال : نعم . فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين ، ثم قال في الليلة الثالثة : ألا تحدث يا أبا سفيان ؟ قلت : وهل بك من حديث ، والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك .
قال : أما إن ذلك لشيء لست فيه ، إنما ذلك لشيء وجلت منه من منقلبي ، قلت : وهل لك من منقلب ؟ قال : أي والله ، لأموتن ثم لأحيين ، قال : قلت : هل أنت قابل أمانتي ؟
قال : على ماذا ؟ قلت : على أنك لا تبعث ولا تحاسب ، قال : فضحك ، ثم قال : بلى ! والله يا أبا سفيان لنبعثن ، ثم لنحاسبن ، وليدخلن فريق الجنة ، وفريق النار .
قلت : ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك ؟ قال : لا علم لصاحبي بذلك ، لا فيّ ولا في نفسه . قال : فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه ، حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا ، وأقمنا بها شهرين ، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى ، فلما رأوه جاؤه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم ، فما جاء إلا بعد منتصف النهار ، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل ، فطرح ثوبيه، ورمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام، وأصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه .
ثم قال : ألا ترحل ؟ قلت : بلى إن شئت ، فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي . ثم قال لي : يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا ؟ قلت: هل لك فيه ؟ قال : نعم . فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال : هيه يا صخر . فقلت : ما تشاء ؟
قال : حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم ؟ قلت : إي والله ، قال : ويصل الرحم ويأمر بصلته ؟ قلت : إي والله.
قال : وكريم الطرفين وسط في العشيرة ؟ قلت : نعم . قال : فهل تعلم قرشيا أشرف منه ؟ قلت : لا والله لا أعلم . قال : أمحوج هو ؟ قلت : لا ، بل هو ذو مال كثير .
قال : وكم أتى عليه من السن ؟ فقلت : قد زاد على المائة . قال : فالشرف والسن والمال أزرين به . قلت : ولم ذاك يزري به ، لا والله بل يزيده خيرا.
قال : هو ذاك . هل لك في المبيت ؟ قلت : لي فيه . قال: فاضطجعنا حتى مر الثقل ، قال : فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به ، ثم ارتحلنا منه ، فلما كان الليل قال لي : يا أبا سفيان قل ما تشاء ، قال : هل لك في مثل البارحة ؟ قلت : هل لك فيه ؟ قال : نعم .
فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال : لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت . ثم قال : فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ، ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي يُنتظر . قال : هو رجل من العرب . قلت : قد علمت أنه من العرب ، فمن أي العرب هو ؟ قال : من أهل بيت تحجه العرب . قلت : وفينا بيت تحجه العرب ؟
قال : هو من إخوانكم من قريش ، فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط. وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة ، وكنت أرجو أن أكون إياه ، قلت : فإذا كان ما كان فصفه لي .
قال : رجل شاب حين دخل في الكهولة ، بدؤ أمره يجتنب المظالم والمحارم ، ويصل الرحم ، ويأمر بصلتها ، وهو محوج كريم الطرفين ، متوسط في العشيرة ، أكثر جنده من الملائكة .
قلت : وما آية ذلك ؟ قال : قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة ، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.
قال أبو سفيان : فقلت : هذا والله الباطل . لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا مسنا شريفا . قال أمية : والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق . قلت : ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول : أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها ، وأصابتهم فيها مصائب عظيمة .
قال أبو سفيان : فأقبل على أمية فقال : كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان ؟ قلت : أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق. قال أبو سفيان : فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر ، ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي ، جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم ، حتى جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها ، فسلم عليّ ورحب بي ، وسألني عن سفري ومقامي ، ولم يسألني عن بضاعته.
ثم قام ، فقلت لهند : والله إن هذا ليعجبني ، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها ، وما سألني هذا عن بضاعته . فقالت لي هند : أو ما علمت شأنه ؟ فقلت وأنا فزع : ما شأنه ؟ قالت : يزعم أنه رسول الله فوقذتني ، وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند : مالك ؟ فانتبهت فقلت : إن هذا لهو الباطل ، لهو أعقل من أن يقول هذا.
قالت: بلى، والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه ، وإن له لصحابة على دينه ، قلت : هذا هو الباطل.
قال : وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له : إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا ، وكان فيها خير ، فأرسل من يأخذها ، ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي ، فأبى علي وقال : إذن لا آخذها .
قلت : فأرسل فخذها ، وآنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي ، فأرسل إلي بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.
قال أبو سفيان : فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن ، ثم قدمت الطائف ، فنزلت على أمية بن أبي الصلت ، فقال لي : يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني ؟ فقلت : أذكره ، وقد كان. فقال : ومن ؟ قلت : محمد بن عبد الله.
قال : ابن عبد المطلب ؟ قلت : ابن عبد المطلب . ثم قصصت عليه خبر هند ، قال : فالله يعلم ؟ وأخذ يتصبب عرقا ثم قال : والله يا أبا سفيان لعله . إن صفته لهي ، ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز وجل في نصره عذرh
قال : ومضيت إلى اليمن ، فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله ، وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف ، فقلت : يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته ، فقال : قد كان لعمري . قلت : فأين أنت منه يا أبا عثمان ؟ فقال : والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا.
قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة ، فو الله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة ، فوجدت أصحابه يضربون ويحقرو ، قال أبو سفيان : فجعلت أقول : فأين جنده من الملائكة ؟ قال : فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.
وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب (الدلائل) من حديث إسماعيل بن طريح به. ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول، والله أعلم.
تعليقات
إرسال تعليق