خليلي عوجا اليوم حتى تسلما

قال سهلُ بن سعد الساعدي (أو ابنه عبّاس): لقيني رجلٌ من أصحابي، فقال: هل لكَ في جميل بثينة(ت82هـ) فإنه ثقيل؟ فدخلنا عليه وهو يكيدُ بنفسه وما يخيّل إليّ أن الموتَ يكرثُه (يشتدُّ عليه) فقال: ما تقولُ في رجلٍ لم يزنِ قطُّ، ولم يشرب خمرًا قطُّ، ولم يقتُل نفسًا حرامًا قطُّ، يشهدُ أن لا إله إلا الله؟ فقلتُ: أظنُّه والله قد نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا. قلتُ: واللهِ ما سلمتَ (يُريد من الزنا) وأنت منذ عشرين سنة تنسب ببثينة، فقال : إنّي لفي آخرِ يومٍ من أيّام الدُّنيا ، وأوّل يوم من أيام الآخرة ، فلا نالتني شفاعةُ محمد صلى الله عليه وسلم إن كنتُ وضعت يدي عليها لريبة قطُّ . قال : فأقمنا حتى مات.
وهكذا مات جميل ومات معه حبه ولكن يظل شعره ينبض بالحياة ويروي لنا قصة عاشق ومن أجمل قصائده يقول :

خَليلَيَّ عوجا اليَومَ حَتّى تُسَلّما
              عَلى عَذبَةِ الأَنيابِ طَيِّبَةِ النَشرِ
فَإِنَّكُما إِن عُجتُما لِيَ ساعَةً
             شَكَرتُكُما حَتّى أُغَيَّبَ في قَبري
أَلِمّا بِها ثُمَّ اِشفِعا لي وَسَلِّما
           عَلَيها سَقاها اللَهُ مِن سائِغِ القَطرِ
وَبوحا بِذِكري عِندَ بُثنَةَ وَاِنظُرا
             أَتَرتاحُ يَوماً أَم تَهَشَّ إِلى ذِكري
فَإِن لَم تَكُن تَقطَع قُوى الوُدّ بَينَنا
      وَلَم تَنسَ ما أَسلَفتُ في سالِفِ الدَهرِ
فَسَوفَ يُرى مِنها اِشتِياقٌ وَلَوعَةٌ
               بِبَينٍ وَغَربٌ مِن مَدامِعِها يَجري
وَإِن تَكُ قَد حالَت عَنِ العَهدِ بَعدَنا
            وَأَصغَت إِلى قَولِ المُؤَنِّبِ وَالمُزري
فَسَوفَ يُرى مِنها صُدودٌ وَلَم تَكُن
             بِنَفسِيَ مِن أَهلِ الخِيانَةِ وَالغَدرِ
أَعوذُ بِكَ اللَهُمَّ أَن تَشحَطَ النَوى
          بِبَثنَةَ في أَدنى حَياتي وَلا حَشري
وَجاوِر إِذا ما متُّ بَيني وَبَينَها
            فَيا حَبَّذا مَوتي إِذا جاوَرَت قَبري
عَدِمتُكَ مِن حُبٍّ أَما مِنكَ راحَةٌ
                 وَما بِكَ عَنّي مِن تَوانٍ وَلا فَترِ
أَلا أَيُّها الحُبُّ المُبَرِّحُ هَل تَرى
             أَخا كَلَفٍ يُغرى بِحُبٍّ كَما أُغري
أَجِدَّكَ لا تَبلي وَقَد بَلِيَ الهَوى
                  وَلا يَنتَهي حُبّي بُثَينَةَ لِلزَجرِ
هِيَ البَدرُ حُسناً وَالنِساءُ كَواكِبٌ
               وَشَتّانَ ما بَينَ الكَواكِبِ وَالبَدرِ
لَقَد فضّلَت حُسناً عَلى الناسِ مِثلَما
            عَلى أَلفِ شَهرٍ فُضِّلَت لَيلَةُ القَدرِ
عَلَيها سَلامُ اللَهِ مِن ذي صَبابَةٍ
               وَصَبٍّ مُعَنّىً بِالوَساوِسِ وَالفِكرِ
وَإِنَّكُما إِن لَم تَعوجا فَإِنَّني
         سَأَصرِفُ وَجدي فَأذَنا اليَومَ بِالهَجرِ
أَيَبكي حَمامُ الأَيكِ مِن فَقدِ إِلفِهِ
            وَأَصبِرُ ما لي عَن بُثَينَةَ مِن صَبرِ
وَما لِيَ لا أَبكي وَفي الأَيكِ نائِحٌ
        وَقَد فارَقَتني شَختَةُ الكَشحِ وَالخَصرِ
يَقولونَ مَسحورٌ يُجَنُّ بِذِكرِها
           وَأُقسِمُ ما بي مِن جُنون وَلا سِحرِ
وَأُقسِمُ لا أَنساكِ ما ذَرَّ شارِقٌ
                    وَما هَبَّ آلٌ في مُلَمَّعَةٍ قَفرِ
وَما لاحَ نَجمٌ في السَماءِ مُعَلَّقٌ
          وَما أَورَقَ الأَغصانُ مِن فَنَنِ السَدرِ
لَقَد شُغِفَت نَفسي بُثَينَ بِذِكرِكُم
           كَما شُغِفَ المَخمورُ يا بَثنَ بِالخَمرِ
ذَكَرتُ مَقامي لَيلَةَ البانِ قابِضاً
               عَلى كَفِّ حَوراءِ المَدامِعِ كَالبَدرِ
فَكِدتُ وَلَم أَملِك إِلَيها صَبابَةً
         أَهيمُ وَفاضَ الدَمعُ مِنّي عَلى نَحري
فَيا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً
              كَلَيلَتِنا حَتّى نَرى ساطِعَ الفَجرِ
تَجودُ عَلَينا بِالحَديثِ وَتارَةً
               تَجودُ عَلَينا بِالرُضابِ مِنَ الثَغرِ
فَيا لَيتَ رَبّي قَد قَضى ذاكَ مَرَّةً
               فَيَعلَم رَبّي عِندَ ذَلِكَ ما شُكري
وَلَو سَأَلَت مِنّي حَياتي بَذَلتُها
            وَجدتُ بِها إِن كانَ ذَلِكَ مِن أَمري
مَضى لي زَمانٌ لَو أُخَيَّرُ بَينَهُ
               وَبَينَ حَياتي خالِداً آخِرَ الدَهرِ
لَقُلتُ ذَروني ساعَةً وَبُثَينَةً
        عَلى غَفلَةِ الواشينَ ثُمَّ اِقطَعوا عُمري
مُفَلَّجَةُ الأَنيابِ لَو أَنَّ ريقَها
         يُداوى بِهِ المَوتى لَقاموا بِهِ مِنَ القَبرِ
إِذا ما نَظَمتُ الشِعرَ في غَيرِ ذِكرِها
             أَبي وَأَبيها أَن يُطاوِعَني شِعري
فَلا أُنعِمَت بَعدي وَلا عِشتُ بَعدَها
        وَدامَت لَنا الدُنيا إِلى مُلتَقى الحَشرِ
  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبوكبير الهذلي وتأبط شراً

جرير والفرزدق والأخطل والاعرابي

من حكم العرب