شجاعة وكرم
أخبرني ابن دريد، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: أخبرني شيخ من بني نبهان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله، حتى أنزلهم الحيرة، فقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصبكن من خيره حتى أرجع إليكن، وآلى ألية لا يرجع حتى يكسبهن خيراً أو يموت. فتزود زاداً، ثم مشى يوماً إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء. فقال: هذا أول الغنيمة، فذهب يحله ويركبه، فنودي: خل عنه واغنم نفسك، فتركه، ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطويل الشمس، فإذا خباء عظيم وقبة من أدم، فقال في نفسه: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل، فنظر في الخباء، فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه، كأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارساً قط أعظم منه ولا أجسم، على فرس مشرف ومعه أسودان يمشيان جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركت حوله، ونزل الفارس، فقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ، فحلب في عس حتى ملأه، ووضعه بين يدي الشيخ وتنحى، فكرع منه الشيخ مرة أو مرتين، ثم نزع، فثرت إليه فشربته، فرجع إليه العبد. فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره، ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم وضع العس بين يدي الشيخ، فكرع منه واحدة، ثم نزع، فثرت إليه فشربت نصفه، وكرهن أن آتي على آخره، فأتهم ، فجاء العبد فأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي، فقال: دعه، ثم أمر بشاة فذبحت، وشوى للشيخ منها، ثم أكل هو وعبداه، فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل، فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحداً، فشللتها إذاً شلا عنيفاً حتى تعالى النهار، ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فقال: احلل عقال الفحل، فقلت: كلا والله، لقد خلفت نسيات بالحيرة، وآليت إلية لا أرجع حتى أفيدهن خيراً أو أموت. قال: فإنك لميت، حل عقاله، لا أم لك! فقلت: ما هو إلا ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور: انصب لي خطامه، واجعل فيه خمس عجر ففعلت، فقال: أين تريد أن أضع سهمي؟ فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي، وحططت قوسي، ووقفت مستسلماً؛ فدنا مني وأخذ السيف والقوس، ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الرجل الذي شربت اللبن عنده، فقال: كيف ظنك بي؟ قلت: أسوأ الظن . قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي، فقال: أترانا كنا نهيجك، وقد بت تنادم مهلهلاً؟ قلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، أنا زيد الخيل، فقلت: كن خير آخذ، فقال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان فيه، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لبنت مهلهل، فأقم علي؛ فإني على شرف غارة.
فأقمت أياماً، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير، فقال: هذه أحب إليك أم تلك؟ قلت: هذه، قال: دونكها. وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء، حتى وردوا بي الحيرة، فلقيني نبطي: فقال لي: يا أعرابي، أيسرك أن لك بإبلك بستاناً من هذه البساتين؟ قلت: وكيف ذاك؟ قال: هذا قرب مخرج نبي يخرج فيملك هذه الأرض، ويحول بين أربابها وبينها، حتى إن أحدهم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير.
قال: فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع الشيطين فبينما نحن في الشيطين على ماء لنا، وقد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وما مضت الأيام حتى شريت بثمن بعير من إبلي بستاناً بالحيرة
تعليقات
إرسال تعليق