الحركة الإنتحارية بالأندلس

نشأت حركة انتحارية في أوساط “المُستعربين كادت أن تودي بالبلاد الأندلسية إلى مالايُحمد عقباه ، وإن كانت قد كشفت عن هشاشة الوضع الاجتماعي بين السُكان .
إذ انتشرت بين المتدينين النصارى في العاصمة قرطبة ، دعوة للتمرد على حكم المسلمين ، وذلك بالتعمد بسب الإسلام ورسوله-صلى الله عليه وسلم- علنًا وأمام المساجد ، بل وفي أوقات الصلاة ، واستمرت هذه الحركة فترة من الزمن ، وكان المحرضان عليها هما راهبان الأول هو “أولوخيو”  والثاني “الراهب “ألفارو” ، لقد ساء هذان الراهبان تلك النزعة العربية التي ظهرت في أوساط الشباب من المستعربين ، وميول هذه الفئة إلى الآداب العربية ، ونظم الشعر العربي ، أو قراءة الكتب العربية ، فحاول هؤلاء الغلاة تأسيس حزب معارض ، لتأليب المُستعربين ضد الإسلام ، وكانا -الراهبان- يدعوان النصارى إلى سب الرسول عليه الصلاة والسلام علنًا ، والطعن في الإسلام ، وكان عقاب من يفعل ذلك الموت ، وذلك بعد أن يُنظر في أمره بالمحاكم. ولقد اجتاح هذا التيار الجارف من الغلو الروحاني الجنوني الأندلس ، وأدركت الدولة الأبعاد الحقيقية الخطيرة ، حيث أنها ماكانت راغبة في الاسترسال في تنفيذ حكم الإعدام ، ولا كانت قادرة على التغاضي عن أعمال يُعاقب عليها القضاء الشرعي بالموت ، وعندما تكررت هذه الحادثة ، صار القُضاة المسلمين يُعالجونها باللين والحُسنى ، فيسعون لاقناع المتهمين بالتراجع عن أقوالهم أو بتحريفها ، بحيث لا تظهر الرغبة في تحدي القوانين والأنظمة ، لكن نادرًا ما نجحت هذه الأساليب ، لأن الحركة قد فشت ورسخت في ضمائر الكثيرين من غلاة مؤمني النصارى .
وكان أوقع الإعدامات أثرًا في النفوس ، اعدام فتاة قرطبية بارعة الجمال تُدعى “فلورا” أبوها مسلم ، وأمها نصرانية ، نشأت في كنف أمها ، فمالت للنصرانية ، بل وتدينت تدينًا شديدًا ، وقد فشلت كل محاولات أخيها لإعادتها إلى عائلتها ومحيطها المسلم ، وكذلك باءت بالفشل كل المحاولات التي بذلها القاضي لمنعها من اللحاق بحركة المعارضة الدينية ، أو إن شئت فسمها باسمها الصحيح “حركة المنتحرين” .وكانت “فلورا” على صلة بالراهب “أولوخيو” وشديدة التأثر بأفكاره ، وأمام تمسكها بموقفها وتكرار شتمها للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- والإسلام كذلك علنًا وعمدًا ، كما أمام قضاة الشرع ، فكان لابد من إعدامها .
تكررت هذه البطولات الانتحارية العنصرية ، في أوساط المتدينين النصارى ، ولقد أربكت هذه الأحداث -كما قلت السنين الأخيرة من حكم الامير عبدالرحمن الثاني- ، ومما كان يُعقّد موقف الأمير أن الدولة ما كان بإمكانها القبول بتقديم تنازلات للمستعربين وذلك لسببين :
1- أن المستعربين في قرطبة ، كما في سائر مناطق الأندلس ،ماكانوا يخضعون لمعاملة سيئة ، فيما يتعلق بأوضاعم الدينية والكنسية ، بل من المؤكد أن وضعهم في ظل دولة الإسلام كان أفضل حالاً من وضع أي أقلية دينية في أوروبا في العصور الوسطى .
2- أن الأمير في تعامله مع هذه العناصر المتطرفة لا يستطيع أن يتصرف إلا على أساس أنه رئيس لدولة ، دينها الإسلام ، ودستورها القرآن ، ودعامتها الشريعة الإسلامية ، وبموجب هذه الشريعة يُعاقب المرتد عن الإسلام ، وكذلك من يشتم ويسب الذات الإلهية وذات الرسول-صلى الله عليه وسلم- ، وهذه العقوبة لا تُطبق حصرًا على غير المسلمين ، وإنما تُطيق على الجميع ، وقد سجّل التاريخ أن رجلاً مسلمًا يُدعى أبا الخير حوكم وأعدم أيام الخليفة الحكم الثاني لهذه التهمة .
لقد كانت هذه الحركة الانتحارية مرفوضة من جانب أغلب المستعربين ، الذين ادركوا أن هذه الحركة إنما هي حركة سياسية ، عنصرية ، ستؤدي إلى اضطرابات ، ونشوء عداوات بين أفراد المجتمع الأندلسي .
لذلك فما أن دعا الأمير عبدالرحمن الثاني رجال الكنيسة الإسبانية إلى النهوض بمسؤلياتهم تجاه مايحدث ، حتى بادروا بعقد مجمع مُقدس في قرطبة العام 852م ، برئاسة أسقف اشبيليا ، ومثّل حكومة قرطبة أحد كبار موظفيها (والي الكتابة) وكان مسيحيًا من المستعربين يُدعى “غومس بن أنطونيان” ، وفي هذا المجمع تداول المجتعون أسباب هذه الحركة ، وتطوراتها ، وفي مايمكن أن تؤدي إليه من اضطرابات وانعكاسات سيئة ، ومع كل ما عبر عنه المجتمعون من عطف شديد على المنتحرين ، ومن تقدير لتضحياتهم ، إلا أنهم أعلنوا استنكارهم لتلك الحركة الانتحارية ، وحذروا النصارى المخلصين من ولوج هذا الدرب الخطير ، كما طلبوا من الدولة اعتقال كل مخالف لقرارات المجمع المقدس .
نهاية الحركة:
أصيب التيار العنصري بانتكاسة لقرارات المجمع الكنسي ، وتأييدها لحكومة قرطبة ، واعتقل الراهب “أولوخيو” كما تم اعتقال آخرين ، وبعد وفاة الامير عبدالرحمن الأوسط ، حاول خلفته الأمير محمد-في بداية ولايته- أن ينهج سياسة أكثر لينًا ومرونة ، فأخرج الزعيم المتشدد من السجن ، وسمح له بالسفر خارج العاصمة ، كما أطلق سراح رفاقه ، على المدى القصير رقدت هذه الحركة الانتحارية في قرطبة ، وذلك لبعض الحين ، وحلّ الراهب “أولوخيو” في مدينة بنبلونة عند البشكنس ، ولكن أفكاره لم ترق لهم ، وذلك لعدم خضوعهم أصلاً لسلطان الدولة الإسلامية ، رغم تمسك البشكنس بالمسيحية وانتصارهم للوطنية الإسبانية ، ولم ينجح سوى في أن يُنتخَب رئيسًا لأساقفة طليطلة ، وهو الانتخاب الذي كان بحاجة لموافقة الأمير ليصبح نافذًا مما لم لم يحصل أبدًا .
فعاد مرة أخرى محرضًا ومشجعًا على إعادة حركة الانتحار في صفوف الشبّاب المستعربين ، ولكنه لم يفلح بذلك إلا على فترات متقطعة ، وبأعداد قليلة ، إذ لم ينتحر خلال الفترة بين 853 إلى 858 أكثر من 14 متطوعًا .
وأخيرًا وبعد أن شعر الأمير محمد أن حركة الانتحاريين قد خفت كثيرًا وأن تجاوب المستعربين مع دعوات “أولوخيو” و”ألفارو” قد خبا كثيرًا ، عزم على حسم الموقف نهائيًا ومرة واحدة ، فأحال زعيم التمرد إلى القضاء الذي أصدر الحكم بإعدامه ، وقد أعدم فعلاً في 11 مارس عام 859م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبوكبير الهذلي وتأبط شراً

جرير والفرزدق والأخطل والاعرابي

من حكم العرب