من أين تعلمت الكرم
قيل للفضل بن يحيى البرمكي : ما أحسن كرمك لولا تيه فيك، فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة. فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: كان أبي عاملا على بعض كور بلاد فارس، فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد، وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف ألف درهم لا يعرف لها وجها، والطلب عليه حثيث، فبقي حائرا في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة، لكنه علم أنه ما يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوما وأنا صبي: امض إلى عمارة وسلم عليه عني وعرفه الضرورة التي قد صرنا إليها واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرض إلى أن يسهل الله تعالى باليسرة، فقلت له: أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك؟ فقال: لا بد أن تمضي إليه لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته، وخرجت وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، حتى أتيت داره واستأذنت في الدخول عليه، فأذن لي، فلما دخلت وجدته في صدر إيوانه متكىء على مفارش وثيرة، وقد غلف سعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط وكان من شدة تيهه لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت أسفل الإيوان، وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة، فسكت ساعة ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادما على نقل خطاي إليه، موقنا بالحرمان عاتبا على أبي كونه كلفني إذلال نفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظا منه، فغبت عنه ساعة ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت أبغالا محملة، فقلت: ما هذه؟ فقيل: إن عمارة قد سير المال، فدخلت على أبي ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كيلا أكدر عليه إحسانه، فمكثنا قليلا، وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة، فدفع إلي ذلك المبلغ وقال: تحمله إليه، فجئت به ودخلت عليه، فوجدته على الهيئة الأولى، فسلمت عليه فلم يرد، فسلمت عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي بحرد: ويحك أقسطارا كنت لأبيك؟ اخرج عني لا بارك الله فيك، وهو لك، فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله، فقال لي: يا بني، والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم، فتعلمت منه الكرم والتيه.
تعليقات
إرسال تعليق