بشر بن عوانة العبدي

 كَان بشر بن عوانةُ العبدي صعْلُوكاً ، من صعاليك العرب ، وكان من شجعان الأبطال ، فأَغار على ركبٍ فِيهم امرأَة جميلَة ، فتزوج بها ، وقال : ما رأَيت كاليوم ،  فَقالَت :
أَعجب بِشراً حَوَرٌ في عَيْنِي
             وَسَاعِدٌ أَبْيَضُ كالُّـلـجَـيْنِ
وَدُونَهُ مَسْرحَ طَرْفِ العَـيْنِ
           خَمْصَانَةٌ تَرْفُلُ فَي حِجْلَـينِ
أَحْسَنُ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليَنِ
           لَوْ ضَمَّ بِشْرٌ بَيْنَهَا وَبَـيْنـي
أَدَامَ هَجْرِي وَأَطَالَ بَـيْنِـي
             وَلَوْ يَقِيسُ زَيْنَهَـا بِـزَيْنِـي
    لأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ
قال بِشْر : ويحك من عَنيتِ ؟  فقالَت : بنت عمك فاطمة ، فقال : أَهي من الحُسنِ بحَيثُ وصفْتِ ؟ قالَت : وأَزيد وأَكثر ، فأَنشأ يَقُول :
وَيْحَكِ يَا ذَاتَ الثَّـنَـايَا الـبِـيضِ
              مَا خِلْتُنِي مِنْكِ بِمُـسْـتَـعـيضِ
فَالآنَ إِذْ لَوَّحْتِ بِـالـتَّـعْـرِيضِ
            خَلَوْتِ جَوّاً فَاصْفِري وَبِـيِضـي
لاَ ضُمَّ جَفْنَايَ عَلى تَـغْـمِـيضِ
       مَا لَمْ أُشُلْ عِرْضِي مِنَ الحَضِيضِ
فقالت :
كَمْ خَاطِبٍ فِي أَمْرِهَا أَلحَّا
         وَهْيَ إِلْيكَ ابْنَةُ عَمٍّ لَحَّـا

ثم أَرسل إِلَى عمه يخطُب ابنته ، ومنعهُ العم أُمنيتهُ ، فآلى أَلاَ يرْعِىَ على أحد منهم إِن لَم يُزَوِجه ابنته ثُم كثرت مضَراته فيهم ، واتصلت معراته إِليهم ؛ فَاجتمع رجالُ الحيِ إِلَى عمه ، وقالُوا : كف عنا مجنونك ، فقال : لَا تلبِسُوني عَاراً ، وأمهِلوني حتى أُهلكه بِبَعضِ الحِيَلِ ، فقالوا : أَنت وذاك ، ثم قال لَه عمه : إِنِي آلَيْتُ أَن لا أزوجَ ابنتي هذه إِلاَ ممن يسوق إِلَيها أَلْف ناقة مهراً ، ولا أَرضاها إِلا من نوق خُزَاعةَ ، وغرض العم كان أَن يسلُكَ بِشْرٌ الطَّريق بينهُ وبيْن خُزَاعةَ فيفْترسه الأَسد ؛ لأَن العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق ، وكان فيه أَسد يسمى دَاذاً ، وحية تدعى شجاعاً ،  ثُم إن بِشراً سلك ذلك الطَريق ، فما نصفهُ حتى لقي الأسد ، وقمص مُهرُهُ ، فنزل وعقرهُ ، ثم اخترط سيفه إِلَى الأَسد ، واعترضه ، وقطّه ، ثم كتب بدم الأَسد على قميصه إلى ابنة عمه :

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَـبْـتٍ

         وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْـرَا

إِذاً لَـرَأَيْتِ لَـيْثـاً زَارَ لَـيْثـاً

             هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقـى هِـزَبْـرَا

تَبَهْنَسَ ثم أحجم عَنْهُ مُهْـرِي

           مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْـرَا

أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّـي

         رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا

وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْـدَى نِـصـالاَ

             مُحَدَّدَةً وَوَجْهاً مُـكْـفَـهِـراًّ

يُكَفْـكِـفُ غِـيلَةً إِحْـدَى يَدَيْهِ

         وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلـىَّ أُخْـرَى

يُدِلُّ بِمِخْـلَـبٍ وَبِـحَـدِّ نَـابٍ

        وَبِاللَّحَظاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَـمْـرَا

وَفي يُمْنَايَ مَاضِي الحَدِّ أَبْقَـى

           بِمَضْرِبهِ قِراعُ المْـوتِ أُثْـرَا

أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا فَعَـلَـتْ ظُـبـاهُ

           بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِـيتَ عَـمْـرَا

وَقَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَيْسَ يَخْـشَـى

       مُصَاوَلةً فَكَيفَ يَخَافُ ذَعْرَا ؟!

وَأَنْتَ تَرُومُ للأَشْـبَـالِ قُـوتـاً

           وَأَطْلُبُ لابْنَةِ الأَعْمامِ مَـهْـرَا

فَفِيمَ تَسُومُ مِـثْـلـي أَنْ يُوَلِّـي

      وَيَجْعَلَ في يَدَيْكَ النَّفْسَ قَسْرَا؟

نَصَحْتُكَ فَالْتَمِسْ يا لَيْثُ غَـيْرِي

          طَعَاماً؛ إِنَّ لَحْمِي كَـانَ مُـرَّا

فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّ الغِشَّ نُـصْـحِـى

           وَخالَفَنِي كَأَنِي قُلْتُ هُـجْـرَا

مَشَى وَمَشَيْتُ مِنْ أَسَدَيْنَ رَامـا

            مَرَاماً كانَ إِذْ طَلَبـاهُ وَعْـرَا

هَزَزْتُ لَهُ الحُسَامَ فَخِلْتُ أَنِّـي

          سَلَلْتُ بِهِ لَدَى الظَّلْماءِ فَجْـرَا

وَجُدْتُ لَـهُ بِـجَـائِشَةٍ أَرَتْـهُ

           بِأَنْ كَذَبَتْهُ مَا مَـنَّـتْـهُ غَـدْرَا

وَأَطْلَقْتُ المَهَّنَد مِـنْ يَمِـيِنـي

          فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَـشْـرَا

فَخَرَّ مُـجَـدَّلاً بِـدَمٍ كَـأنـيَّ

            هَدَمْتُ بِهِ بِناءً مُـشْـمَـخِـرا

وَقُلْتُ لَهُ: يَعِـزُّ عَـلَّـي أَنِّـي

        قَتَلْتُ مُنَاسِبي جَلَداً وَفَـخْـرَا؟

وَلَكِنْ رُمْتَ شَـيْئاً لـمْ يَرُمْـهُ

       سِوَاكَ، فَلمْ أُطِقْ يالَيْثُ صَبْـرَا

تُحاوِلُ أَنْ تُعَلِّمـنِـي فِـرَاراً!

         لَعَمْرُ أَبِيكَ قَدْ حَاوَلْتَ نُـكْـرَا!

فلاَ تَجْزَعْ؛ فَقَدْ لاقَـيْتَ حُـرًّا

         يُحَاذِرُ أَنْ يُعَابَ؛ فَمُـتَّ حُـرَّا

فَإِنْ تَكُ قَدْ قُتِلْتَ فَلـيْسَ عَـاراً

           فَقَدْ لاَقَيْتَ ذا طَرَفَـيْنِ حُـرَّا

وقال عندما قابل الحية :

بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ

             لَمَّا رآهُ بِالعَرَاءِ عَمُّـهُ

قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُـهُ وَأُمُّـهُ

        جَاشَتْ بِهِ جَائِشَةٌ تَهُمُّهُ

قامَ إِلَى ابْنٍ للفَلاَ يَؤُمُّـهُ

           فَغَابَ فِيهِ يَدُهُ وَكُـمُّـهُ

وَنَفْسُهُ نَفْسِي وَسَمِّي سَمُّهُ

 

 

مقامات بديع الزمان الهمذاني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبوكبير الهذلي وتأبط شراً

جرير والفرزدق والأخطل والاعرابي

من حكم العرب