ثار كما يثور الأسد
حكى الفضل بن يزيد قال : نزل علينا بنو ثعلب في بعض السنين ، وكنت مشغوفاً بأخبار العرب أن أسمعها وأجمعها ، فبينما أنا أدور في بعض أحيائهم إذا أنا بامرأة واقفةٍ في فناء خبائها ، وهي آخذة بيد الغلام قلما رأيت مثله في حسنه وجماله ، له ذؤبتان كالسبج المنظوم ، وهي تعاتبه بلسان رطب ، وكلام عذب ، تحن إليه الأسماع ، وترتاح له القلوب ، وأكثر ما أسمع منها : أي بني وهو يبتسم في وجهها ، قد غلب عيه الحياء والخجل ، كأنه جارية بكر لا يرد جواباً . فاستحسنت ما رأيت واستحليت ما سمعت ، فدنوت منه ، وسلمت فرد علي السلام ، فوقفت انظر لهما . فقالت يا حضري : ما حاجتك ؟ فقلت : الاستكثار مما أسمع ، والاستمتاع بما أرى من هذا الغلام . فقالت : يا حضري ، إن شئت سقت لك من خبره ما هو أحسن من منظره . فقلت : قد شئت يرحمك الله . فقالت : حملته والرزق عسرٌ ، والعيش نكدُ ، حملاً خفيفاً حتى مضت له تسعة أشهر ، وشاء الله عز وجل أن أضعه ، فوضعته خلقاً سوياً ، فوربك ماهو إلا أن صار ثالث أبويه ، حتى أفضل الله عز وجل وأعطى ، وأتى بالرزق ما كفى وأغنى ، ثم أرضعته حولين كاملين ، فلما استتم الرضاع نقلته من خرق المهد إلى فراش أبيه فربي كأنه شبل أسد ، أقيه برد الشتاء ، وحر الهجير . حتى إذا مضت له خمس سنين ، أسلمته إلى المؤدب فحفظه القرآن فتلاه ، وعلمه الشعر فرواه ، ورغب في مفاخر قومه وآبائه وأجداده ، فلما أن بلغ الحلم ، واشتد عظمه ، وكمل خلقُهُ حملته على عتاق الخيل فتفرس وتمرس ، ولبس السلاح ، ومشى بين بيوتات الحي الخيلاء ، فأخذ في قري الضيف ، وإطعام الطعام ، وأنا عليه وجلة أشفق عليه من العيون أن تصيبة . فأتفق أن نزلنا بمنهل من مناهل العرب ، فخرج فتيان الحي في ثأر لهم ، وشاء الله أن ادبر الليل ، وأسفر الصبح ، حتى طلعت علينا غرر الجياد ، وطلائع العدو ، فما هو إلا هنيهة حتى أحرزوا الأموال دون أهلها ، وهو يسألني عن الصوت وأنا أستر عنه الخبر إشفاقاً عليه ، وضناً به إذ علت الأصوات وبرزة المخدرات ، رمى دثاره ، وثار كما يثور الأسد ، وأمر بإسراج فرسه ، ولبس لامة حربه ، وأخذ رمحه بيده ولحق حماة القوم ، فطعن أدناهم منه فرمى به ، ولحق أبعدهم منه فقتله ، فانصرفت وجوه الفرسان فرأوه صبياً ، فحملوا عليه فأقبل يؤم البيت ونحن ندعو الله عز وجل له بالسلامة ، حتى إذا مدهم وراءه وامتدوا في إثره عطف عليهم ، ففرق شملهم وشتت جمعهم ، وقلل كثرتهم ومزقهم كل ممزق ، ومرق كما يمرق السهم ، وناداهم خلوا عن المال فوالله لا رجعت إلا به ، أو لأهلكن دونه ، فانصرفت إليه الأقران ، وتمايلت نحوه الفرسان ، وتميزت له الفتيان وحملوا عليه وقد رفعوا إليه الأسنة وعطفوا عليه بالأعنة ، فوثب عليهم وهو يهدر كما يهدر الفحل من وراء الأبل ، وجعل لا يحمل من ناحية إلا حطمها ، ولا كتيبة إلا مزقها ، حتى لم يبقى من القوم إلا من نجا بف فرسه ثم ساق المال ، وأقبل به فكبر القوم عند رؤيته ، وفرح الناس بسلامته ، فوالله ما رأينا قط يوماً كان أسمح صباحاً ، و أحسن رواحاً من ذلك اليوم .
تعليقات
إرسال تعليق