مريم العذراء عليها السلام

رُوي أنّ حنّة زوجة عمران كانت عاقراً لم تلد ، إلى أن عجزت ، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت بطائر يطعم فرخاً له ، فتحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فقالت : يا ربّ إنّ لك عليّ نذراً ، شكراً لك ، إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمه .  إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ   وقد استجاب لها الله سبحانه ، فحملت ، أولى الامتحانات أن أمها ، التي كانت ترجو أن ترزق غلاماً لتهبه لخدمة بيت المقدس رزقت بنتاً ، والبنت لا تقوم بالخدمة في المسجد كما يقوم الرجل ، وأسفت حنّة واعتذرت لله عزّ وجل فقالت :  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ    لكن الله سبحانه وتعالى قبل هذا النذر ، وجعله نذراً مباركاً وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم :  فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ   ولدت مريم يتيمة فقد توفي والدها عمران وهي في بطن أمها ، فكانت أمها لا تستطيع تربيتها لكبر سنها ، فكان كل شخص يريد أن يحظى بكفالتها فعمران أبو مريم كان معلمهم ومن درسهم دينهم وذا أفضال عليهم ، فاتفقوا أن يقفوا على مجرى النهر ويرموا اقلامهم (اختاروا القلم لأن أبو مريم كان يعلمهم بالقلم) ، وآخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها ، فرموا اقلامهم وجُرفت اقلامهم ووقف قلم زكريا أي انه لم يكن اخر واحد ولكن وقف تماماً في النهر ، فرموا مرة ثانية وحدث نفس ماحدث في المرة الأولى اي ان قلم زكريا وقف في النهر. رموا المرة الثالثة فوقف القلم في النهر مرة أخرى .

  ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ   فآواها الله عند زوج خالتها نبي الله زكريا ، وكان هذا من رحمة الله بمريم ورعايته لها ، قال تعالى :  فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ   شبّت مريم وبيتها المسجد ، وخلوتها فيه ، وبلطف الله بها كان الطعام يأتيها من الغيب ، وكلما زارها النبي زكريا ، وجد عندها رزقاً ، فكان يسأل عن مصدر هذا الرزق لأنه هو كافلها ، فتقول له :  فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ   وطوال تلك المدة كانت مريم وهي المنذورة المقيمة في المحراب ، فتاةعابدة قانتة في خلوة المسجد تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة والصوم  تمهيد مريم لهذه المعجزة. بدأت الملائكة تكلم مريم وهذا اصطفاء آخر  يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ   ثم نزول جبريل وهي معتكفة تعبد الله على هيئة رجل ليبشرها بالمسيح ولدًا لها  فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا   ففزعت منه ،  قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ،  قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا     بعد أن حملت مريم ، وبدأ الحمل يظهر عليها ، خرجت من محرابها في بيت المقدس إلى مكان تتوارى فيه عن أعين الناس حتى لا تلفت الأنظار  فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا   فجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهي وحيدة ، فتضع حملها ولا أحد إلى جانبها يعتني بها ويواسيها وقد اجتمعت كل هذه الهموم والمصاعب على السيدة مريم ، وهي من هي في عالم الايمان والتقوى ، حتى وصل الأمر بها إلى أن تتمنّى الموت كما أشار القرآن الكريم :  فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا   الله سبحانه وتعالى لا يترك من آمن ولجاء إليه خاصة سيدتنا مريم التي اصطفاها الله عز وجل بهذه المعجزة .فأنطق الله وليدها وكان أول مانطق به عيسى بأن تنظر تحتها فتجد عين ماء جارية.  فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا   وأن تنظر لأعلى فتجد في النخل رُطباً  وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا   وهذه من المعجزات فهذا جدول ماء رقراق يفجّره الله لها ، وها هي وهي ضعيفة من آثار الولادة ، تستطيع أن تهزّ جذع النخلة فيتساقط عليها الرطب جنياَ ، وانطلقت إلى قومها.  فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا   فأنطق الله بقدرته المسيح  قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا   فَعَلَتِ الدهشةُ وجوهَ القوم ، وظهرت براءة مريم ، فانشرح صدرها ، وحمدت الله على نعمته .

هاجرت به مريم إلى مصر وتَرَّبى فيها المسيح ، لأن أعداء الله من اليهود خافوا على عرشهم وثرواتهم ، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك.  وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ   وفي قوله تعالى :  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  

عادت إلى فلسطين بعد موت الملك الطاغية ، وظلت فيها حتى بعث الله تعالى المسيح برسالته ، فشاركته أمه أعباءها ، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به ، حتى إذا أرادوا قتله ، أنقذه الله من بين أيديهم ، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا الإسخريوطي ، فأخذه اليهود فصلبوه حيا . بينما رفع الله عيسى إليه مصدقًا لقوله تعالى :  وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا  

وتوفيت مريم بعد رفع عيسى بخمس سنوات ، وكان عمرها حينئذ ثلاثًا وخمسين سنة ، ويقال : إن قبرها في أرض دمشق .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبوكبير الهذلي وتأبط شراً

جرير والفرزدق والأخطل والاعرابي

من حكم العرب